بسم
الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي عجزتِ العقول عن إدراك كُنْهِ ذاته. والصلاة
والسلام على خير الخلق سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فهذه
الرسالة الصغيرة هي رسالة التي كتبتُها في بيان قاعدة "انتفاء الدليل يؤذن
انتفاء المدلول" عند المتكلمين. وهذه القاعدة تعرف باسمه الأخر وهو "انتفاء المدلول
لانتفاء دليله" أو "انتفاء المدلول بانتفاء دليله"
أو "ما لا دليل عليه يجب نفيه".
وأما
المعنى لهذه القاعدة فهو أن العلم بشيء لا يكون إلا بما دل عليه الدليل نفيا أو
إثباتا. فإذا انتفى الدليل فيوجب على انتفاء المدلول.
وهذه
القاعدة قد أشار إليها متقدمو المتكلمين مثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر
الباقلاني وغيرهما خلافا لمذهب متأخري المتكلمين مثل الغزالي وفخر الدين الرازي
والإيجي. وقد قال به الدكتور محمد رمضان عبد الله بخبر ابن خلدون في مقدمته:
"ثم
ذهب الشيخ أبو الحسن، و
القاضي
أبو بكر و الأستاذ أبو إسحاق
إلا
أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها – إلى أن قال - والمتأخرون
من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة، و
لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله".[1] وقال الدكتور محمد رمضان
عبد الله عن هذه العبارة: "انتقاء المدلول لانتفاء دليله – وهذا الدليل هو
أحد الأدلة العقلية التي أقرها الباقلاني في منهجه الكلامي الذي سار عليه الأشاعرة
المتقدمون".[2]
من
هذه العبارة فظهر لنا بأن الدكتور محمد رمضان عبد الله قد أخلط بين قاعدة
"انتفاء الدليل يؤذن انتفاء المدلول" وقاعدة "بطلان الدليل بطلان
مدلوله". لأن المراد من قاعدة "انتفاء الدليل" هو عدم وجود الدليل.
وأما المراد من قاعدة "بطلان الدليل" فهو وجود الدليل ولكن دليله باطل.
وأما من الذي رأى مثل الدكتور محمد رمضان هو الأستاذ النشار في مقدمته على الشامل
للجويني.[3]
وأما
عبارة استدلال الباقلاني بهذه القاعدة في كتابه التمهيد فهي قوله بوجوب المعجزات
لثبوت نبوة الأنبياء لأن انتفاء المعجزة يؤدي إلى انتفاء نبوة الأنبياء وقال: "ودلالة المعجزات على صدق صاحبها وأمثال ذلك مما قد عرف جهة تعلق الدليل فيه بمدلوله – إلى أن قال – فجعل ذلك من دليل النبوة وما لا
يطلع عليه إلا من أوحي به إليه".[4]
والصحيح
عندنا أن الدليل لا يشترط الانعكاس لأن عدم وجود الدليل لشيء لا يدل على عدم وجود
مدلوله. مثل دليل وجود الصانع على وجود العالَم. ولكن ليس بالعكس أي عدم وجود
العالَم مثلا ليس دليلا على عدم وجود الصانع.
نقل صاحب الباقلاني وأراؤه الكلامية من عضد الدين الإيجي في المواقف:
"أن الباري عز وجل لو لم يخلق العالم الذي يدل على وجوده لم يدل ذلك على عدمه
قطعا".[5]
هذا هو رأي المتأخرين.
وقال
أبو القاسم النيسابوري: "الفعل يدل على وجود الفاعل وعلى اقتداره فهذا هو
المعني باطراد الدليل فإنه مهم وجد الفعل وجب أن يكون دالا على وجود الفاعل كاشفا
عنه وعن اقتداره ثم عدم الفعل لا يدل على عدم الفاعل ولا على عجزه وكذلك الدخان
يدل على النار فهذا طرد الدليل وعدم الدخان لا يدل على عدم النار ولو دل عدم
الدخان على عدم النار لانعكس الدليل".[6]
قد تم هذا البحث. ونسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا ويوفقنا لما يرضيه عنا
ويغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ووالديهم ولإخواننا وأصحابنا وأحبابنا ولمن وصانا
بالدعاء ولجميع المسلمين. ونفعنا بعلوم المؤلف آمين.
[1] عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، تحقيق:
عبد السلام الشدادي (عدم المكان: خزانة ابن خلدون بيت الفنون والعلوم والآداب، عدم
السنة)، ج 3، 96-97.
[3] مصطفى حسنين عبد الهادي، دراسة وتحقيق للغنية
في الكلام لأبي قاسم النيسابوري (القاهرة: دار السلام، 2010م)، ج 1، 168.
[4] أبو بكر
محمد بن الطيب الباقلاني،
تمهيد الأوائل
وتلخيص الدلائل،
تحقيق: عماد الدين أحمد
حيدر (بيروت: مؤسسة
الكتب الثقافية، 1987)،
76-77.
[6] أبو قاسم سلمان بن ناصر الأنصاري، الغنية في
الكلام، تحقيق: مصطفى حسنين عبد الهادي (القاهرة: دار السلام، 2010م)، ج 1،
170.